سورة مريم - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)}.
يقول تعالى مخبرًا عن زكريا، عليه السلام، أنه {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أي: علامة ودليلا على وجود ما وعدتني، لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني كما قال إبراهيم، عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} الآية [البقرة: 260]. {قَالَ آيَتُكَ} أي: علامتك {أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} أي: أن تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال وأنت صحيح سوي من غير مرض ولا علة.
قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، ووهب بن منبه، والسدي وقتادة وغير واحد: اعتقل لسانه من غير مرض.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة.
وقال العوفي، عن ابن عباس: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} أي: متتابعات.
والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح كما قال تعالى في أول آل عمران: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ} [آل عمران: 41].
وقال مالك، عن زيد بن أسلم: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} من غير خرس.
وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها {إِلا رَمْزًا} أي: إشارة؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريمة: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} أي: الذي بشر فيه بالولد، {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أي: أشار إشارة خفية سريعة: {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} أي: موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله، وشكرًا لله على ما أولاه.
قال مجاهد: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أي: أشار. وبه قال وهب، وقتادة.
وقال مجاهد في رواية عنه: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أي: كتب لهم في الأرض، كذا قال السدي.


{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)}.
وهذا أيضا تضمن محذوفًا، تقديره: أنه وجد هذا الغلام المبشر به، وهو يحيى، عليه السلام، وأن الله علمه الكتاب، وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار. وقد كان سنه إذ ذاك صغيرًا، فلهذا نوه بذكره، وبما أنعم به عليه وعلى والديه، فقال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أي: تعلم الكتاب {بِقُوَّةٍ} أي: بجد وحرص واجتهاد {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} أي: الفهم والعلم والجد والعزم، والإقبال على الخير، والإكباب عليه، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث السن.
قال عبد الله بن المبارك: قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب. قال: ما للعب خلقت، قال: فلهذا أنزل الله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}.
وقوله: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} يقول: ورحمة من عندنا، وكذا قال عكرمة، وقتادة، والضحاك وزاد: لا يقدر عليها غيرنا. وزاد قتادة: رُحِم بها زكريا.
وقال مجاهد: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} وتعطفًا من ربه عليه.
وقال عكرمة: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} قال: محبة عليه.
وقال ابن زيد: أما الحنان فالمحبة.
وقال عطاء بن أبي رباح: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا}، قال: تعظيمًا من لدنا.
وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة عن ابن عباس قال: لا والله ما أدري ما حنانًا.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور: سألت سعيد بن جبير عن قوله: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا}، فقال: سألت عنها عباس، فلم يحر فيها شيئًا.
والظاهر من هذا السياق أن: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} معطوف على قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} أي: وآتيناه الحكم وحنانا، {وَزَكَاةً} أي: وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب: حنّت الناقة على ولدها، وحنت المرأة على زوجها. ومنه سميت المرأة حَنَّة من الحَنَّة، وحن الرجل إلى وطنه، ومنه التعطف والرحمة، كما قال الشاعر:
تَحنَّنْ عَلَي هَدَاكَ المليكُ *** فإنَّ لكُل مَقامٍ مَقَالا
وفي المسند للإمام أحمد، عن أنس، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه قال: «يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة: يا حنان يا منان».
وقد يُثنَّي ومنهم من يجعل ما ورد من ذلك لغة بذاتها، كما قال طرفة:
أَنَا مُنْذر أفنيتَ فاسْتبق بَعْضَنَا *** حَنَانَيْك بَعْض الشَّر أهْونُ مِنْ بَعْض
وقوله: {وَزَكَاةً} معطوف على {وَحَنَانًا} فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب.
وقال قتادة: الزكاة العمل الصالح.
وقال الضحاك وابن جريج: العمل الصالح الزكي.
وقال العوفي عن ابن عباس: {وَزَكَاةً} قال: بركة {وَكَانَ تَقِيًّا} طهر، فلم يعمل بذنب.
وقوله: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى، عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما، ومجانبته عقوقهما، قولا وفعلا وأمرًا ونهيًا؛ ولهذا قال: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} أي: له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال.
وقال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد، فيرى نفسه خارجًا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم. قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه، {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}
رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل عنه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: {جَبَّارًا عَصِيًّا}، قال: كان ابن المسيب يذكر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب، إلا يحيى بن زكريا». قال قتادة: ما أذنب ولا همّ بامرأة، مرسل.
وقال محمد بن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، حدثني ابن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا» ابن إسحاق هذا مدلس، وقد عنعن هذا الحديث، فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ، أو همَّ بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى».
وهذا أيضًا ضعيف؛ لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة، والله أعلم.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة: أن حسن قال: إن يحيى وعيسى، عليهما السلام، التقيا، فقال له عيسى: استغفر لي، أنت خير مني، فقال له الآخر: استغفر لي فأنت خير مني. فقال له عيسى: أنت خير مني، سَلَّمتُ على نفسي، وسلم الله عليك، فَعرُف والله فضلهما.


{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)}.
لما ذكر تعالى قصة زكريا، عليه السلام، وأنه أوجد منه، في حال كبره وعقم زوجته، ولدًا زكيًّا طاهرًا مباركًا- عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى، عليهما السلام، منها من غير أب، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة؛ ولهذا ذكرهما في آل عمران وهاهنا وفي سورة الأنبياء، يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه، وأنه على ما يشاء قادر، فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} وهي مريم بنت عمران، من سلالة داود، عليه السلام، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمّها لها في آل عمران، وأنها نذرتها محررة، أي: تخدم مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك، {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران: 37] ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدءوب، وكانت في كفالة زوج أختها- وقيل: خالتها- زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك وعظيمهم، الذي يرجعون إليه في دينهم. ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء، كما تقدم بيانه في آل عمران. فلما أراد الله تعالى- وله الحكمة والحجة البالغة- أن يُوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام، أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام، {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} أي: اعتزلتهم وتنحت عنهم، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس.
قال السدي: لحيض أصابها.
وقيل لغير ذلك. قال أبو كُدَيْنَة، عن قابوس بن أبي ظِبْيان، عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه، وما صرفهم عنه إلا قيل ربك: {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} قال: خرجت مريم مكانًا شرقيًّا، فصلوا قبل مطلع الشمس. رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة؛ لقول الله تعالى {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} واتخذوا ميلاد عيسى قبلة.
وقال قتادة: {مَكَانًا شَرْقِيًّا} شاسعًا متنحيًّا.
وقال محمد بن إسحاق: ذهبت بقلتها تستقي من الماء.
وقال نَوْف البِكَالي: اتخذت لها منزلا تتعبد فيه. فالله أعلم.
وقوله: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} أي: استترت منهم وتوارت، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} أي: على صورة إنسان تام كامل.
قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن جُرَيْج ووهب بن مُنَبِّه، والسُّدِّي، في قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} يعني: جبريل، عليه السلام.
وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى: {نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 193، 194].
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: إن روح عيسى، عليه السلام، من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم، وهو الذي تمثل لها بشرا سويًّا، أي: روح عيسى، فحملت الذي خاطبها وحل في فيها.
وهذا في غاية الغرابة والنكارة، وكأنه إسرائيلي.
{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} أي: لما تَبَدى لها الملك في صورة بشر، وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب، خافته وظنت أنه يريدها على نفسها، فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} أي: إن كنت تخاف الله. تذكير له بالله، وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل، فخوفته أولا بالله، عز وجل.
قال ابن جرير: حدثني أبو كُرَيْب، حدثنا أبو بكر، عن عاصم قال: قال أبو وائل- وذكر قصة مريم- فقال: قد علمت أن التقي ذو نُهْيَة حين قالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} أي: فقال لها الملك مجيبًا لها ومزيلا ما حصل عندها من الخوف على نفسها: لست مما تظنين، ولكني رسول ربك، أي: بعثني إليك، ويقال: إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقا وعاد إلى هيئته وقال: «إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلامًا زكيا».
هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء. وقرأ الآخرون: {لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} وكلا القراءتين له وجه حسن، ومعنى صحيح، وكل تستلزم الأخرى.
{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيًّا} أي: فتعجبت مريم من هذا وقالت: كيف يكون لي غلام؟ أي: على أي صفة يوجد هذا الغلام مني، ولست بذات زوج، ولا يتصور مني الفجور؛ ولهذا قالت: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} والبغي: هي الزانية؛ ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي.
{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي: فقال لها الملك مجيبًا لها عما سألت: إن الله قد قال: إنه سيوجد منك غلامًا، وإن لم يكن لك بعل ولا توجد منك فاحشة، فإنه على ما يشاء قادر؛ ولهذا قال: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} أي: دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم، الذي نوع في خلقهم، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه.
وقوله: {وَرَحْمَةً مِنَّا} أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله نبيًّا من الأنبياء يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 45، 46] أي: يدعو إلى عبادة الله ربه في مهده وكهولته.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم- دُحَيْم- حدثنا مروان، حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي، عن مجاهد قال: قالت مريم، عليها السلام: كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر.
وقوله: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} يحتمل أن هذا من كلام جبريل لمريم، يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته. ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها، كما قال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم: 12] وقال {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91]
قال محمد بن إسحاق: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} أي: أن الله قد عزم على هذا، فليس منه بد، واختار هذا أيضًا ابن جرير في تفسيره، ولم يحك غيره، والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8